السبت، 11 ديسمبر 2010

مؤسس السلفيه بالجزائر عبد الحميد بن باديس يكتب عن اتاتورك حين توفى..


في السابع عشر من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث عبقري من أعظم عباقرة الشرق، الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب فيحولون مجرى التاريخ و يخلقونه خلقا جديدا ذلك هو مصطفى كمال بطل غاليبولي في الدردنيل، وبطل سقاريا في الأناضول، وباعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو.

وإذا قلنا بطل غاليبولي فقد قلنا غالب الإنجليز أعظم دولة بحرية الذي هزمها في الحرب الكبرى شر هزيمة لم تعرفها في تاريخها الطويل، وإذا قلنا بطل سقاريا فقد قلنا قاهر الإنجليز وخلفائهم من يونان، وطليان، وفرنسيين بعد الحرب الكبرى ومجليهم عن أرض تركيا، بعد احتلال عاصمتها و التهام أطرافها وشواطئها.


وإذا قلنا باعث تركيا فقد قلنا باعث الشرق الإسلامي كله.


فمنزلة تركيا التي تبوأتها من قلب العالم الإسلامي في قرون عديدة هي منزلتها فلا عجب أن يكون بعثه مرتبطا ببعثها، لقد كانت تركيا قبل الحرب الكبرى هي جبهة صراع الشرق إزاء هجمات الغرب ومرمى قذائف الشره الاستعماري و التعصب النصراني من دول الغرب فلما انتهت الحرب، فخرجت تركيا منها مهمشة مفككة تناولت الدول الغربية أمم الشرق الإسلامي تمتلكها تحت أسماء استعمارية ملطفة واحتلت تركيا نفسها، واحتلت عاصمة الخلافة و أصبح الخليفة طوع يدها، و تحت تصرفها وقال المارشال اللنبي - وقد دخل القدس - (اليوم انتهت الحروب الصليبية) فلو لم يخلق الله المعجزة على يد كمال لذهبت تركيا و ذهب الشرق الإسلامي معها لكن كمالا الذي جمع تلك الفلول المبعثرة، فالتف به إخوانه من أبناء تركيا البررة ونفخ من روحه في أرض أناضول حيث الأرومة التركية الكريمة و غيل ذلك الشعب النبيل وقاوم ذلك الخليفة الأسير و حكومته المتداعية، وشيوخه الدجالين من الداخل، وقهر دول الغرب و في مقدمتها إنكلترا من الخارج - لكن كمالا هذا أوقف الغرب المغير عند حده و كبح من جماحه و كسر من غلوائه، وبعث في الشرق الإسلامي أمله وضرب له المثل العالي في المقاومة والتضحية، فنهض يكافح ويجاهد، فلم يكن مصطفى محي تركيا وحدها، بل محي الشرق الإسلامي كله، وبهذا غير مجرى التاريخ، ووضع للشرق الإسلامي أساس تكوين جديد، فكان بحق كما قلنا - من أعظم عباقرة الشرق العظام الذين أثروا في دين البشرية و دنياها من أقدم عصور التاريخ.


إن الإحاطة بنواحي البحث في شخصية أتاتورك ( أبي الترك ) مما يقصر عنه الباع، و يضيق عنه المجال، ولكني أرى من المناسب أو من الواجب أن أقول كلمة في موقفه إزاء الإسلام. فهذه هي الناحية الوحيدة من نواحي عظمة مصطفى أتاتورك التي ينقبض لها قلب المسلم ويقف متأسفا و يكاد يولي مصطفى في موقفه هذا الملامة كلها حتى يعرف المسؤولين الحقيقيين الذين أوقفوا مصطفى ذلك الموقف، فمن هم هؤلاء المسؤولون ؟. . .


المسؤولون الذين كانوا يمثلون الإسلام وينطقون باسمه، ويتولون أمر الناس بمفرده ويعدون أنفسهم أهله وأولى الناس به.


هؤلاء هم خليفة المسلمين شيخ إسلام المسلمين ومن معه من علماء الدين، شيوخ الطرق الصوفية والأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها.


أما خليفة المسلمين فيجلس في قصره تحت سلطة الإنجليز المحتلين لعاصمته ساكتا ساكنا مستغفرا لله، بل متحركا في يدهم تحرك الآلة لقتل حركة المجاهدين بالأناضول، ناطقا بإعلان الجهاد ضد مصطفى كمال ومن معه الخارجين عن طاعة أمير المؤمنين.


وأما شيخ الإسلام وعلماؤه فيكتبون للخليفة منشورا يمضيه باسمه ويوزعه على الناس بإذنه وتلقيه الطائرات اليونانية على القرى برضاه، ويبيح دم مصطفى كمال ويعلن خيانته ويضمن السعادة لمن يقتله.


وأما شيوخ الطرق الضالون وأتباعهم المنومون فقد كانوا أعوانا للإنجليز وللخليفة الواقع تحت قبضتهم يوزعون ذلك المنشور، ويثيرون الناس ضد المجاهدين.


وأما الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها فمنها - إلا قليلا - من كانوا في بيعته فانتفضوا عليه ثم كانوا في صف أعدائهم وأعدائه ومنها من جاءت من مستعبديها حاملة السلاح على المسلمين شاهرة له في وجه خليفتهم.


فأين هوا لإسلام في هذه (الكليتيات)* كلها ؟، و أين يبصره مصطفى الثائر المحارب والمجاهد الموتور بها ؟


لقد ثار مصطفى كمال حقيقة ثورة جامحة و لكنه لم يثر على الإسلام و إنما على هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين، فألغى الخلافة الزائفة وقطع يد أولئك العلماء عن الحكم فرفض مجلة الأحكام واقتلع شجرة زقوم الطرقية من جذورها، وقال للأمم الإسلامية عليكم أنفسكم، وعلي نفسي،لا خير لي في الاتصال بكم مادمتم على ما أنتم عليه.


فكونوا أنفسكم ثم تعالوا نتعاهد ونتعاون كما نتعاهد وتتعاون الأمم ذوات السيادة والسلطان.


أما الإسلام فقد ترجم القرآن لأمته التركية بلغتها لتأخذ الإسلام من معدنه أو تستقيه من نبعه، ومكنها من إقامة شعائره فكانت مظاهر الإسلام في مساجده ومواسمه تتزايد في الظهور عاما بعد عام حتى كان المظهر الإسلامي العظيم يوم دفنه والصلاة عليه تغمده الله برحمته؛لسنا نبرر صنيعه من رفض مجلة الأحكام، ولكننا نريد أن نذكر الناس أن تلك المجلة المبنية على مشهور و راجح مذهب الحنفية ما كانت تسع حاجة أمة من الأمم؛ في كل عصر؛ لأن الذي يسع البشرية كلها في جميع عصورها هو الإسلام بجميع مذاهبه، لا مذهب واحد أو جملة مذاهب محصورة كائنا ما كان، وكائنه ما كانت أو نريد أن يذكر الناس أيضا أن أولئك العلماء الجامدين ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا غير ما عرفوه من صغرهم من مذهبهم، وما كانت حواصلهم الضيقة لتتسع أكثر من ذلك، كما يجب أن يذكروا أن مصر، بلد الأزهر الشريف مازالت إلى اليوم الأحكام الشرعية - غير الشخصية - معطلة فيها، ومازال ( كود) نابليون مصدر أحكامها إلى اليوم، ومازال الانتفاع بالمذاهب الإسلامية في القضاء - غير المذهب الحنفي - مهجورا كذلك إلا قليلا جدا.


نعم إن مصطفى أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية ليس مسؤولا في ذلك وحده، وفي إمكانهم أن يسترجعوها متى شاءوا و كيفما شاءوا، و لكنه رجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض، وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع، وهو وحده كان مبعثه ومصدره، ثم إخوانه المخلصون، فأما الذين رفضوا الأحكام الشرعية إلى (كود ) نابليون فماذا أعطوا أمتهم ؟ و ماذا قال علماؤهم ؟


فرحم الله مصطفى و رجح ميزان حسناته في الموازين و تقبل إحسانه في المحسنين.


وإلى الأمة التركية الشقيقة الكريمة الماجدة، التي لنا فيها حفدة و أخوال، والتي تربطنا بها أواصر الدين والدم والتاريخ والجوار، والتي تذكر الجزائر أيامها بالجميل أو ترى شخصها دائما ماثلا فيما تركت لها من مساجد ومعاهد للدين الشريف أو الشرع الجليل، إلى تركيا العزيزة نرفع تعازي الجزائر كلها مشاركين لهافي مصابها راجين لها الخلف الصالح من أبنائها و مزيد التقدم في حاضرها ومستقبلها.


وإلى هذا فنحن نهيبها برئيس جمهوريتها الجديد عصمت إينونو، بطل (إينونو) ومؤتمر لوزان و ثني مصطفى كمال، وإن في إجماعها على انتخابه دليلا على ما بلغته تركيا الكريمة من الرشد في الحياة الذي تبلغ به - إن شاء الله - من السعادة والكمال، ما يناسب مجدها القدموس وتاريخها الحافل بأعاظم الرجال، وجلائل الأعمال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق